إخلاء الخرطوم من السلاح- ضرورة لاستعادة الدولة السودانية.

في خضم الأوضاع الأمنية المضطربة التي تشهدها ربوع السودان جراء تداعيات الحرب ضد مليشيا الدعم السريع المتمردة، اتخذ رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، قرارًا حاسمًا يقضي بإخلاء العاصمة الخرطوم من جميع المظاهر المسلحة.
لا شك أن هذا القرار لم يعد مجرد تطلع أو أمنية، بل بات ضرورة وطنية مُلحة وحتمية في سبيل استعادة مكانة الدولة وهيبتها وإعادة بناء مؤسساتها الركينة. ويتعين أن يصدر هذا القرار من موقع قوة واقتدار، لا سيما بعد أن تجلّت قدرة القوات المسلحة السودانية على دحر مليشيا الدعم السريع التي كانت الأعتى عتادًا والأكثر تسليحًا، وتحظى بدعم خارجي سافر، وتنتشر في مفاصل الدولة بأكثر من 120 ألف مقاتل، والتي فاجأت الجيش بهجومها الغادر في 15 أبريل/نيسان 2023.
إن النجاح الباهر الذي حققه الجيش في مواجهة هذا الخصم الصلد عالي التنظيم والتسليح يعزز الثقة بقدرته الفائقة على فرض قراراته الإستراتيجية الحاسمة، وفي طليعتها إعادة تنظيم المشهد الأمني برمته داخل المدن.
أمام هذا المنظر، تغدو المقارنة بين مليشيا الدعم السريع والحركات المسلحة الأخرى ضربًا من الخيال؛ فهذه الأخيرة ما فتئت تظهر التزامًا جادًا بالاتفاق السياسي الذي تم توقيعه في مدينة جوبا، وتعترف بسيادة الدولة ومركزيتها وتؤمن بضرورة دمج قواتها في الجيش الوطني.
لا تقتصر أهمية الانتصارات المتتالية التي يحققها الجيش السوداني على قدرته على كسر شوكة أخطر المليشيات في تاريخ البلاد، بل تتعداها إلى التحولات الجيوسياسية العميقة التي أفرزتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ففي مقال تحليلي بالغ الأهمية نشرته صحيفة تايمز أوف إسرائيل، أشار الصحفي البريطاني جافين سيركين، الخبير المتخصص في الشأن الأفريقي، إلى أن "الواقع الجديد" في السودان، عقب الانتصارات المدوية التي حققها الجيش في الخرطوم وود مدني ومناطق واسعة من دارفور، قد أربك حسابات العواصم الكبرى، وعلى رأسها واشنطن وتل أبيب.
وأوضح سيركين أن موازين القوى قد انقلبت رأسًا على عقب لصالح الجيش بقيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، مما حدا بالقوى الدولية الفاعلة، وعلى رأسها دول الترويكا، إلى إعادة تقييم إستراتيجيتها، والبحث عن تسوية "تُرضي الجيش السوداني"، بعد أن بات جليًا أن أي مشروع سياسي لا يحظى بموافقة الجيش لا يمكن فرضه على أرض الواقع.
هذه المعطيات المتجددة تمنح الجيش السوداني القدرة على المضي قدمًا بثقة أكبر لفرض قرارات إستراتيجية مفصلية، على غرار إخلاء المدن من السلاح، ليس فقط كضرورة أمنية ملحة لا تحتمل التأخير، بل كإعلان واضح وصريح عن استعادة زمام المبادرة على كافة الأصعدة والمستويات.
وعليه، فإن قرار إخلاء المدن من السلاح لا يُقرأ كمقامرة محفوفة بالمخاطر، بل كمحطة منطقية وممكنة في مشروع إعادة بناء الدولة، يساندها وجود قوة عسكرية ضاربة على الأرض، وتدفع في اتجاهها ضرورات الأمن والاستقرار، لا سيما في ظل إجماع وطني متزايد على أن الدولة وحدها يجب أن تحتكر السلاح وتعيد تنظيم وتشكيل القوات العسكرية ضمن الأطر النظامية والقانونية.
ولا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى هذا القرار بمعزل عن السياق السياسي والأمني الأوسع؛ فانتشار السلاح خارج نطاق المنظومة الرسمية لا يهدد العاصمة وحدها، بل يهدد وحدة الدولة وتماسكها.
إن إخلاء المدن من المليشيات المسلحة ليس مجرد إجراء تقني روتيني، بل هو فعل سيادي بامتياز يعكس قدرة الدولة على حصر القوة في يد واحدة. كما أنه ضرورة حتمية لحماية العملية السياسية برمتها، إذ لا يمكن تصور أي انتقال مدني أو ديمقراطي سلس في ظل وجود قوى مسلحة متعددة داخل المدن.
لقد أثبت الجيش السوداني، بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب، أنه الجهة الوحيدة القادرة على فرض الاستقرار الميداني. فهو لم يكتفِ بالصمود والثبات، بل استطاع أن ينتقل من موقع الدفاع إلى الهجوم الفعال، وأن يحرر مدنًا رئيسية ذات أهمية إستراتيجية بالغة، ويكسر النفوذ العسكري لمليشيا الدعم السريع في مناطق متعددة. هذه التجربة العملية تمنح القرار الجديد مصداقية أكبر، وترسي دعائم مرحلة جديدة يكون فيها تفكيك المظاهر المسلحة جزءًا لا يتجزأ من سياق إستراتيجي شامل لإعادة هندسة الدولة على أسس متينة.
الحركات المسلحة: من الشراكة المأمولة إلى النفوذ المتوهم
حين وُقّع اتفاق جوبا للسلام في عام 2020، تم الترويج له على نطاق واسع باعتباره بداية مشجعة لعهد جديد من السلام الدائم وبناء الشراكة الوثيقة بين المركز والهامش. بيد أن التطورات اللاحقة كشفت عن انحراف مؤسف في المسار؛ إذ تحولت بعض الحركات المسلحة إلى بؤر نفوذ تسعى إلى اقتسام الغنائم والمحاصصة بدلًا من الانخراط الجاد في بناء الدولة الموحدة، واحتفظت ببنيتها العسكرية دون أن تُقدم على خطوات ملموسة لنزع السلاح أو إعادة الهيكلة.
في بداية الحرب، تجنبت هذه الحركات الانخراط المباشر، وتذرعت بالحياد المريب، ثم عادت وانحازت إلى جانب الجيش لاحقًا، باستثناء بعض القيادات التي اختارت الانضمام إلى صفوف مليشيا الدعم السريع، أو تبنت مواقف رمادية مبهمة.
والأخطر من ذلك، أن بعض هذه الحركات تمارس السلوكيات ذاتها التي لطالما اشتكت منها: تسييس الجغرافيا، وتكريس الجهوية الضيقة، والاستحواذ على السلطة دون أدنى مسؤولية. وبدلًا من أن تذوب في بوتقة الدولة الموحدة، بدأت تُعيد تشكيل الدولة وفقًا لحساباتها الضيقة، وتفاوض على أساس موازين القوى المتغيرة، لا على أساس برنامج وطني مشترك.
وقد فاقم هذا الوضع من ظاهرة "الجيش السياسي"، حيث انخرطت بعض الفصائل في العمل السياسي دون أن تتخلى عن بزّتها العسكرية، وأصبحت تُدير الوزارات والمؤسسات التنفيذية بالعقلية ذاتها التي كانت تُدير بها المعسكرات: أوامر عسكرية، ومحسوبيات مقيتة، وولاءات مشبوهة. بل بات بإمكان فصيل مسلح أن يُعرقل قرارًا سياديًا إذا شعر أنه لا يخدم مصالحه أو يقلص نفوذه.
وإذا أمعنا النظر في تفاصيل تنفيذ اتفاق جوبا، فسنجد أن البنود المتعلقة بإعادة هيكلة القوات ودمجها في الجيش لم تُطبّق على أرض الواقع. بل إن بعض الحركات توسعت عسكريًا بعد دخولها العاصمة، وأنشأت معسكرات جديدة، وواصلت عمليات التجنيد.
هذا التوجه السائد يثير علامات استفهام كبرى حول مدى التزام هذه الحركات بروح الاتفاق، ويثير مخاوف مشروعة من أن تتحول إلى كيانات سياسية عسكرية موازية، تمارس الضغط من الداخل لا بهدف الإصلاح المنشود، بل بهدف تأمين مواقعها ومصالحها.
كما أن العديد من القواعد الميدانية لهذه الحركات ما زالت تعيش حالة من الاحتقان والتأهب والصدام مع الدولة، وتحمل في خطابها قدرًا كبيرًا من العداء للمؤسسات المركزية. وتتحدث بعض التصريحات التي تصدر من القيادات الوسطى عن مطالب تتجاوز بكثير ما أقره الاتفاق، مما يشير إلى وجود خلل واضح في الالتزام والانضباط السياسي داخل هذه الكيانات.
مكاتب الحركات: قنابل موقوتة تهدد أمن العاصمة
إن المشهد السائد في الخرطوم اليوم يكشف عن تناقض جوهري صارخ مع روح اتفاق جوبا للسلام؛ فمكاتب بعض الحركات المسلحة تنتشر على نطاق واسع داخل الأحياء السكنية، وتحت حراسة عسكرية علنية تُربك السكان وتقلق المدنيين، ويُجنَّد فيها أفراد ذوو سوابق إجرامية في أعمال السطو والاعتداء.
وهذا أمر معيب وشاذ، إذ كان من المفترض أن تكون هذه المكاتب ذات طابع مدني بحت، وتخضع لحماية الشرطة النظامية، بينما يكون المقاتلون على خطوط المواجهة الحقيقية في دارفور وغيرها من المناطق المضطربة، لا في قلب العاصمة وبقية المدن.
لم تأتِ هذه الحركات إلى الخرطوم لتُجند المزيد من العناصر، بل جاءت بموجب الاتفاق لوضع السلاح والانخراط بجدية في مشروع وطني شامل لبناء الدولة الموحدة والمساهمة الفعالة في الانتقال السلمي الديمقراطي. وأي سلوك يتعارض مع هذا المسار يُعد انتهاكًا صارخًا للاتفاق، وتهديدًا مباشرًا لأمن المجتمع ولأسس الدولة.
ورغم أن بعض القيادات العليا لهذه الحركات تُبدي تفهمًا سياسيًا عميقًا وتطرح مواقف عقلانية ومنطقية، فإن الإشكال الحقيقي يكمن في القيادات الوسطى والميدانية، حيث ما زالت الحمولات التعبوية القديمة فاعلة ومؤثرة، وتتحكم بشكل كبير في السلوك السياسي والميداني، وكأن اتفاق السلام لم يُوقّع أصلًا، وكأن الحرب لم تُفرز دروسها وعبرها بعد.
إلى جانب ذلك، فإن سلوك بعض هذه الحركات في الحياة العامة بات يثير قلق المواطنين، حيث تُسجل حالات استيلاء على مقرات رسمية أو عقارات خاصة، ويجري فرض النفوذ بالقوة في بعض الأسواق، بل وتُستخدم الأسلحة النارية لفض النزاعات البسيطة، دون أي رادع قانوني فعّال. هذه الممارسات المشينة تنسف الأسس الأخلاقية والقانونية لوجود هذه الحركات داخل المدن، وتضع الحكومة أمام مسؤولية واضحة لا تحتمل التأخير: إما أن تفرض هيبة الدولة وتصون كرامتها، أو تفقد ما تبقى لها من سلطة ومكانة.
كما أن ضعف التنسيق المشترك بين مؤسسات الدولة والحركات المسلحة في المجال الأمني الحساس يجعل العاصمة عرضة للاختراق، ويُعرقل الجهود المضنية المبذولة لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار المنشود. إن وجود هذه القوات بصورتها الحالية يُسهم بشكل كبير في تضييق مساحة الدولة، ويقوّض سلطة القانون، ويجعل أي حديث عن استحقاقات ديمقراطية مجرد وهم لا يستند إلى واقع ملموس.
حين تعجز البنادق عن بناء وطن.. رؤى وتطلعات
في كل مرة تُمنح فيها الحركات المسلحة فرصة للاندماج في الدولة، دون أن تُسلم سلاحها أو تُراجع خطابها التحريضي، تُضاف حلقة جديدة في سلسلة الإخفاقات الوطنية المتتالية. فالوطن لا يُبنى على أسس المحاصصة البغيضة، ولا تُؤسس له شرعية زائفة بالرصاص، ولا تُدار مدنه بمزاج العائدين من ساحات القتال.
لقد آن الأوان للسودان أن يضع حدًا لهذه الحلقة المفرغة التي تُنتج حركات مسلحة من رحم الإقصاء والتهميش، ثم تُعيد إنتاج الإقصاء من داخل السلطة. آن له أن يتحرر من "جمهورية البنادق المؤجلة"، ويعود إلى مشروع الدولة الجامعة، لا السلطة الموزعة.
فإما أن تعود الحركات المسلحة إلى حضن الوطن سالمة آمنة بلا سلاح، أو تبقى في هامش التاريخ، تتآكل خلف شعارات جوفاء لا تجد لها صدى لدى الجمهور، وبنادق صدئة لا معنى لها. وإما أن تتوحد راية السلاح تحت علم الدولة، أو نظل نعيش في دويلة داخل الدولة، ونراوح مكاننا في مرحلة انتقالية عرجاء لا تقود إلى أي انتقال حقيقي.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل حقيقة دامغة مفادها أن اتفاق جوبا للسلام، بالشكل الذي نُفّذ به، لم يعد صالحًا كمرجعية لبناء السلام المنشود أو إعادة تشكيل الدولة. لقد تجاوز الواقع السياسي والميداني في السودان اتفاق جوبا، الذي بُني على شروط لم تعد قائمة، وأصبح استمراره كمرجعية ضربًا من التجميل السياسي الخادع لا أكثر.
إن ما تبقّى من اتفاق جوبا اليوم لا يتجاوز كونه غطاءً سياسيًا واهيًا يُستخدم في كثير من الأحيان لتبرير الامتيازات غير المستحقة، لا التزامًا حقيقيًا ببناء الدولة القوية. وعليه، فإن السؤال المطروح لم يعد: كيف نُفعّل الاتفاق؟ بل: كيف نتجاوزه ببديل أكثر واقعية وشمولًا؟ بديل يُعيد تعريف العلاقة الملتبسة بين الدولة والسلاح، ويمنح السياسة مكانتها اللائقة، ويُعيد الاعتبار لقيمة المواطنة الحقة، لا للتهديد والوعيد.